فكانوا ساكنين غارّين إلى أن أطلّ الجيش في الموضع الذي ظنّوا أنّهم آمنون فيه فلم يجدوا مهربا ولا معدلا عن المجاهدة، فثبتوا سحابة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأول سنة إحدى وستّين وثلاثمائة، منذ طلوع الشمس إلى غروبها. واستحضر المقتدر أبا العبّاس الخصيبي وهو أحمد بن عبيد الله يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من شهر رمضان. ثم ترقّى أمره في قيادة الجيش والتحقق بها إلى أن ندب للخروج إلى العراق في جيش كثيف من الريّ والإجماع مع عضد الدولة لنصرة بختيار بن معز الدولة في الخلاف الذي وقع بينه وبين الأتراك المستعصين عليه كما سنشرحه فيما بعد بإذن الله. وفيها تمكن الأستاذ الجليل أبو الفتح ابن أبي الفضل ابن العميد رحمهما الله من الوزارة بعد أبيه وفوض إليه ركن الدولة تدبير ممالكه ومكّنه من أعنة الخيل فصار وزيرا وصاحب جيش على رسم والده، إلّا أنّ والده باشر هذه الأمور في كمال من أدواته وتمام من آلاته على ما شرحناه فيما تقدم، وكان لوفور عقله يدارى أمره مع صاحبه ومع عسكره ثم يسوس رعيّته والممالك التي يراعيها ويدبر الجميع تدبيرا ملائما لوقته موافقا لزمانه فلا يظهر من الزينة وأبّهة الوزارة إلّا بمقدار ما يقيم به مرتبته ولا يجاوز ذلك إلى ما يحسد عليه وينافس، ثم يتواضع تواضعا لا يخرج به إلى غضاضة تلحقه في جاهه أو تحطّه عن المنزلة العالية التي يرقى إليها وكانت سلامته طول مدته على أصناف الناس وطبقاتهم وقيام هيبته وتمام سياسته متصلة تزيد على الأيام ثناء وثباتا.
فأول من أنكر عليه هذا الفعل عضد الدولة ومؤيد الدولة ابنا ركن الدولة وكتّابهم ثم سائر مشايخ الدولة ورأوه يركب في موكب عظيم ويغشى الدار والديوان فإذا خرج تبعه الجميع وخلت دار الامارة حتى لا يوجد فيها إلّا المستخدمون من الاتباع والحاشية فقط. وذلك أنّ هذه السدود تكون من قصب وتراب يقام في وجوه المياه الجاريه عند ضعف جريانها وغاية نقصانها فإذا وردت المياه القوية ومنعت من حدورها كفى منها اليسير من المعونة حتى تنبعث ويدفع بعضها بعضا وربما كان سبب انبثاق الماء نقب فأرة ثم يوسعه الماء وينتهى فيه إلى حيث لا حيلة في سده. فلما طالت المدة في عمل هذه السدود وجرت في أضعافها وقائع لحقت المدود وغلب الماء والسيل علاج السكور فاحتيج إلى الإمساك عنها والانصراف عن إتمامها إلى حفظ ما عمل منها بالرجال حتى لا يفسدها العدو، لا سيما وعمران متدرب بذلك قد اعتاد في جميع حروبه أن يمسك عن عدوه حتى ينفق ماله ويكذ رجاله فإذا أحسّ بالمد ومجيء السيول احتال في تخريب ما يبنى له من السكور وإنّما يكفيه إيقاع ثلمة يسيرة في أحد نواحي السد ثم يحمل الماء فيتولى كفايته في الهدم والتخريب. ومذهب صحصح في تفضيل النسيان على كثير من الذكر وأن الغباء في الجملة أنفع من الفطنة في الجملة وأن عيش البهائم أحسن موقعاً من النفوس من عيش العقلاء وإنك لو أسمنت بهيمة ورجلاً ذا مروءةً أو امرأةً ذات عقل وهمة وأخرى ذات غباء وغفلة لكان الشحم إلى البهيمة أسرع وعن ذات العقل والهمة أبطأ.
ثم انجلت الوقعة عن قتل الرجال المقاتلة إلّا القليل وعن الاحاطة بحرمهم وذراريّهم وأملاكهم ونجا في الوقت رئيسهم المعروف باب المنيوم للحمامن أبي الرجال البلوصى مع جماعة من الوجوه ثم ظفر بهم من بعد فقتلوا جميعا ودخل نفر يسير ممن بقي تحت الأمان وتشبثوا بالعهد والذمام فنقلوا عن تلك الجبال. فأما ابنه أبو الفتح فكان فيه مع رجاحته وفضله في أدب الكتابة وتيقّظه وفراسته نزق الحداثة وسكر الشباب المنيوم للحمام وجرأة القدرة، فتطلعت نفسه إلى اظهار الزينة الكثيرة واستخدام الديلم والأتراك والاحتشاد في المواكب التي يركب فيها واتخاذ الدعوات لصاحبه وسائر عسكره التي يلتزم فيها الخلع والحملان على الدواب والمراكب والإسراف في الصلات والنفقات تشبّها بوزراء عزّ الدولة بختيار الذين لا خبرة لهم بعواقب الأمور ولا نظر لهم في مصالح الملك وإنّما همة أحدهم في تناول شهواته والوصول إلى لذّاته وإثارة غيظ حسّادهم بإظهار الزينة التي فوق طاقته. وإنّما ذكرنا هاهنا جملة من سوء تدبيره لنفسه ونحن نشرحها مفصلة في الأمور التي حدثت في سنة خمس وستّين وثلاثمائة ليعتبر بها المعتبرون ويجرى مجرى تجارب الأمم التي يتكرر مثلها فيتحرّز منها.
أهر: بالفتح ثم السكون وراء، مدينة عامرة كثيرة الخيرات مع صغر رقعتها من نواحي أذربيجان بين أردبيل وتبريز ويقال لأميرها ابن بيشيكان خرج منها جماعة من الفقهاء والمحدثين وبينها وبين وراوي مدينة أخرى يومان. ولمّا عرف ابن رائق ما جرى على رجاله في الماء أنفذ أبا العباس أحمد بن خاقان وجوامرد الرائقى إلى المذار على الظهر لمحاربة البريدي وإخراج أصحابه وسيّر بدرا الخرشنى إلى البصرة في الماء في شذاءات مقيّرة بناها بواسط. فاضطر بختيار إلى طلب مصالحته على مال يلتمسه منه - وقد كان هابه في أول الأمر فبذل له خمسة آلاف ألف درهم - فلمّا طلب هذا المال بعد اضطراب الجند وطول المقام وانقطاع الحيلة امتنع عليه منها وبذل ألفي ألف درهم بوساطة سهل بن بشر كاتب بختكين آزاذرويه وكانت بينه وبين عمران صداقة فنجّم عليه هذا المبلغ ثم تماسك عمران وامتنع من التوثقة بما وافق عليه واقتصر منه على اليمين أيضا فاضطرّ الوسائط إلى أن يقولوا لبختيار أنّه قد حلف وما حلف. فكان أبو الفتح ابن العميد يسرف في ركوب هذه الأهواء ويحب أن يبلغ غاية ما يقدر عليه منها فجلب عليه ذلك ضروب الحسد من ضروب السلاطين وأصحاب السيوف والأقلام فكان صاحبه ركن الدولة قد شاخ وسئم ملابسة أمور الجند وأحب الراحة والدعة ففوض إليه الأمور ورآه شابّا قد استقبل الدنيا استقبالا فهو يحب التعب الذي قاساه ركن الدولة ثم ملّه ويستلذّ فيه الانتصاب للأمر والنهى ومخالطة الجند والركوب إلى الصيد ومشى خواص الديلم وكبار الجند بين يديه ثم مشاربتهم ومؤانستهم والإحسان إليهم بالخلع والحملان.